![]() |
القوى السياسية والحزبية في زحلة بين الأمس واليوم: «النيابة« بين العائلات... و«حزبية الفئات الوسطى« الكتائبية واليسارية و«العونيّة«
«زحلة عروس البقاع« التي طالما أشتهرت بأنها «مدينة العائلات ومقبرة الأحزاب«، خرقت هذه القاعدة عام 2005 في الإنتخابات النيابية الأولى بعد الإنسحاب السوري من لبنان، فمنحت نائباً حزبياً هو المهندس سليم عون من التيار الوطني الحر أصواتاً تناهز ما حصلت عليه «الزعامة السكافية الكاثوليكية« المتجذرة في المدينة، وفرضت تالياً «التيار الوطني الحر« شريكاً أساسياً في «قرار زحلة« وهي تحصل للمرّة الثّالثة على التّوالي في تاريخ زحلة السّياسي، لأنّ المرّة الأولى كانت عام .1951 يوم فاز بالمقعد الكاثوليكي فيها المرحوم النّائب والوزير السّابق جان سكاف الّذي كان رئيساً لأقاليم البقاع الكتائبيّة وسقوط جوزف سكاف لأوّل مرّة في زحلة. والمرّة الثّانية كانت عام 1968 مع النّائب جورج عقل رئيس إقليم زحلة الكتائبي الّذي فاز بالمقعد الماروني على لائحة الوزير والنّائب السّابق جوزف أبو خاطر ضدّ الياس الهراوي (الرّئيس) على لائحة النّائب جوزف سكاف الّذي سقط بالنّيابة هو أيضاً شخصيّاً أمام منافسة أبو خاطر. وإذا كان من المبكر الحكم على «التجربة الحزبية« في زحلة بإنتظار أداء نواب المدينة الجدد تحت قبة البرلمان ومدى الحجم الذي سيبلغه الإنتشار الحزبي في الإنتخابات القادمة في الربيع، فإن «تفاعل المجتمع الزحلي« مع الأحزاب الناشطة في المدينة يؤشر إلى بداية تغيير في المجتمع السياسي الزحلي الذي تعاطى بحذر مع «الأحزاب« منذ الإستقلال. وفضلاً عن «اللون البرتقالي العوني« الذي تمدّد بسرعة في الأحياء الزحلية، تخطّت الكتائب اللبنانية و«القوات اللبنانية« بوجود فاعل وقديم يستقطب المزيد من المؤيدين وبخاصة لدى الشباب. في هذا الملف إضاءة على التجارب الحزبية في زحلة قبل الحرب اللبنانية في العام 1975، وعلى محاولات الحفاظ على ما تبقى من عصب حزبي وحراك سياسي في عز «السطوة السورية« بعد الثالث عشر من تشرين الأول من العام 1990 وحتى أفول «زمن الوصاية« في نيسان العام .2005
فرغم أن زحلة شهدت منذ الثلاثينات إنتشاراً لأحزاب عريقة كالكتائب والشيوعي، بقي النشاط الحزبي محدوداً وضعيفاً أمام قوة العائلات وتنازعها على النفوذ السياسي في المدينة. وقد تحولت العصبية العائلية إلى ''حزبية''، يتوزّع عليها ولاء الناس، وتشكل الإطار الأبرز للنشاط السياسي. فعرفت زحلة تقليدياً بالإنقسام الحزبي الثنائي بين الحزب السكافي أو «الكتلة الشعبية« بزعامة جوزف طعمة سكاف و''حزب الضد'' الذي قادته «عائلتا بريدي وأبو خاطر« المناهضتان لنفوذ سكاف. وجرت الإنتخابات النيابية في دائرة زحلة منذ الإستقلال وحتى دورة العام 1968 على قاعدة الصراع بين جوزف سكاف وخصومه، فيما شكلت إنتخابات العام 1972 الإستثناء لهذه القاعدة، إذ حصل «إئتلاف« بين لائحة جوزف سكاف ولائحة السفير جوزف أبو خاطر ومخائيل الدّبس المدعومة من جان سكاف، وأسدل الستار على الصراع التقليدي الذي طبع معارك زحلة النيابية عبر دخول النّائب سليم المعلوف ممثّلاً بهم في لائحة جوزف سكاف. ووسط التجاذب السياسي المتمحور حول قطبي الحزبية العائلية، حاولت الأحزاب جاهدة وبشق النفس أن تجد موطئ قدم لها في المدينة. ولعل التجربة الحزبية الأكبر كانت «للكتائب اللبنانية« التي إستطاعت في دورتيّ العامين 1951 و 1968 أن توصل رئيسين لإقليم زحلة الكتائبي إلى المجلس النيابي. مع الإشارة إلى وجود نشاط شيوعي ويساري عبر عنه مثقفون ونقابيون ومجموعات طالبية، من دون أن يترسخ ويستمر كما الأحزاب الأخرى. أحد المتعاطين بالإنتخابات في زحلة، يذكر أن زحلة عرفت أيضاً وجوداً محدوداً «لحزب الوطنيين الأحرار« تمثل بالحالة الشمعونية التي برزت خصوصاً في حي حوش الأمراء الماروني في علاقة المرحوم النّائب جورج الهراوي وإستمدت حضورها من قوة شخصية الرئيس كميل شمعون وهالته. كما كان «للكتلة الوطنية« متعاطفون مع طروحاتها من بعض المثقفين، لكن الكتلة لم تعرف في زحلة أي حضور تنظيمي. ويرى أن أسباباً عديدة حالت دون نمو الأحزاب في زحلة، وأبرزها الطبع الزحلي المفطور على عدم التقيد بنظام إنضباطي، وافتقار الأحزاب إلى شخصيات قيادية بارزة تستقطب وتضخ في الأحزاب المناصرين والمؤيدين. ومن الأسباب المانعة للتوسع الحزبي بحسب هذا «المخضرم« تقصير الأحزاب في الدعاية و''التسويق'' السياسي، فضلاً عن قوة الإرث السياسي التقليدي والإنتماء العائلي والطابع المحافظ للمدينة.
الكتائب.. والموارنة.. والنيابة! إنتشر «حزب الكتائب« في مختلف أنحاء زحلة، ولا سيما المارونية و«الطرفية« منها، كالمعلقة وحوش الأمراء ووادي العرائش. وإستقطب الفئات الإجتماعية الوسطى كالمدرسين والموظفين والطلاب. ونادى الكتائبيون «بالتغيير والمفاهيم التقدمية«، وواجهوا زعامة جوزف سكاف على إمتداد العقود التي سبقت الحرب اللبنانية، مستفيدين من نقاط قوتهم وأبرزها التنظيم والإنضباط والإنتشار. أحد قدامى الكتائبيّين يرى أن ثلاث محطات كبيرة تميّز تاريخ الكتائب في زحلة: «المحطة الأولى عام 1941 عندما أنشئ إقليم البقاع برئاسة النائب ثم الوزير جان سكاف، والمحطة الثانية عندما تولى جورج عقل رئاسة الإقليم وأصبح نائباً وعضواً في المكتب السياسي الكتائبي في العام 1968، أما المحطة الثالثة فكانت في العام 1971 عندما أصدر الشيخ بيار الجميل قراراً بتقسيم البقاع إلى ثلاثة أقاليم واختير رينيه الصقر رئيساً لإقليم زحلة. ويقول الكتائبي القديم« أن الحديث عن إنطلاقة الكتائب يقود إلى ذكر الرفاق الأوائل الذين أشرفوا على توسيع الإنتشار الكتائبي أمثال الوزير السابق جان سكاف والنائب جورج عقل وحبيب دوبا وقيصر يمين وأنطوان خوري وأمين الصقر وفؤاد التّرك وابراهيم حبيقة وخليل داود وفوزي خزّاقة والمختاران شكري أبو سليمان وجوزف النجّار وأورتانس دمّوس وسواهم. في بداية إنطلاقتها، إرتكزت الكتائب على نفوذ جان سكاف الذي تولى رئاسة أقاليم البقاع الكتائبية، وبدأ تكريس زعامته السياسية مع خصوم جوزف سكاف من آل بريدي وأبو خاطر وغيرهما من العائلات. ومع مطلع الخمسينات، إزدادت قوة الكتائب، وارتفع عدد المنتسبين إليها، مع الإشارة إلى أن معظمهم كان من الموارنة ومن المعارضين لجوزف سكاف. غير أن التأييد الشعبي لجان سكاف لم يعنِ بالضرورة تأييداً للكتائب، بسبب الولاء الزحلي للشخص وليس للحزب. ويقول الدكتور أنطوان ساروفيم في كتابه ''الإنتخابات اللبنانية في زحلة والبقاع - الجزء الثاني'' أن ''الذين يؤيدون جان سكاف ليسوا بالضرورة من محبذي حزب الكتائب. وليس كل الذين انتسبوا إلى الكتائب في تلك الفترة أيدوا رئيسهم في الإنتخابات النيابية''. لكن الكتائبيين كانوا دائماً، لتنظيمهم وانتشارهم، القاعدة التي تستند إليها «لائحة جان سكاف« في مواجهة التنظيم الجيد للائحة «الكتلة الشعبية« بزعامة جوزف سكاف. في الستينات، «شهدت الكتائب« تصاعد نفوذها السياسي في لبنان بالتزامن مع ترسيخ «الحكم الشهابي«، ما إنعكس على وضعها في زحلة. فمحافظ البقاع «الشهابي نصري سلهب« الذي عيّن في مستهل الستينات، نفذ إنجازات إدارية وسياحية وحارب الرشوة، مشدداً على فكرة الدولة العادلة كما يراها فؤاد شهاب. وفي الإنتخابات البلدية عام 1963، فاز «الكتائبي الماروني إبراهيم حبيقة« مع «رئيس لائحته الشاعر سعيد عقل« في مقابل لائحة جوزف سكاف التي تألفت من معاونيه الأوفياء وفازت بمعظمها. لكن أوساطاً زحلية تشير إلى أن فوز عقل وإبراهيم حبيقة جاء أيضاً نتيجة للعصبية المارونية التي برزت في هذه الإنتخابات، حيث فاز خمسة أعضاء موارنة من من اللائحتين أصل أربعة عشر مقعداً. كان على جورج عقل أن ينتظر إنتخابات العام 1968 حتى يدخل الندوة البرلمانية بإسم «كتائب زحلة«. فعلى وقع إزدياد نفوذ المنظمات الفلسطينية التي نشأت في قرى قضاء زحلة الإسلامية بعد هزيمة العام 1967، ترشح جورج عقل على لائحة السفير جوزف أبو خاطر المواجهة للائحة جوزف سكاف الذي حارب «المكتب الثاني« بقوة في ذلك الحين وإستطاع إسقاطه للمرة الأولى منذ العام .1953 وفاز عقل على منافسه الياس الهراوي المدعوم من حزب «الوطنيين الأحرار« والمرشح على لائحة سكاف. لكن الفارق بين المارونيين القويين اللذين ينتميان إلى الحي الماروني نفسه، حوش الأمراء، لم يكن كبيراً ولم يتجاوز مئات الأصوات. وكان فوز جورج عقل على أعتاب التحول الكبير في الإنتخابات التي سجلت فوز «الحلف الثلاثي« في لبنان، وما رتبته من تداعيات بالغ المعاني والدلالات في مدينة زحلة.
«شيوعيو« الأرثوذكس... ومناشير العمال! تعود جذور ''السنديانة الحمراء'' الشيوعية في زحلة إلى منتصف العشرينات من القرن الماضي، عندما إنطلق مناصرو الحزب الشيوعي في نشاطهم السري، يوزعون المناشير المعادية للإنتداب الفرنسي والمؤيدة للثورة السورية. كما حض الشيوعيون في دعواتهم العمال على الإضراب والمطالبة بحقوقهم، وكانوا رائدي التحركات العمالية والنقابية. الأستاذ في الجامعة اللبنانية الدكتور فارس ساسين يقول «أن المنابت الشيوعية في زحلة إرتبطت خصوصاً بعائلات أرثوذكسية، وأن شيوعيي زحلة ساهموا في تأسيس «نقابة عمال زحلة« وكانت أول نقابة عمال في لبنان«. كذلك كان للحزب الشيوعي إنتشار واسع في صفوف الأرمن، ومنهم هاريكازيون بوياجيان أحد المؤسسين الأوائل للحزب في زحلة. وشهدت الفترة الممتدة من الثلاثينات حتى الخمسينات تصاعداً في نشاطات الشيوعيين والتي تميزت بالعمل السري، كما أقام الشيوعيون مهرجانات في ذكرى حزبهم وفي مناسبات عالمية. وبحسب كتاب ''العمل السري في الحزب الشيوعي اللبناني'' لعزيز صليبا، فإن أسماء عديدة برزت في قيادة الأنشطة الشيوعية والنقابية، ومنها: الياس القرعوني، حليم فاخوري، الياس عقيص وأشقاؤه أنطوان وجوزفين وإفلين، رشيد عاصي، وديع نصرالله، مخايل طراد وشقيقه اسكندر، أغوب كالاجيان،... ويقول صليبا في كتابه «أن زحلة بقيت دائماً مركزاً رئيسياً للحزب الشيوعي. وإبتداءً من العام 1973، تحول مكتب المحامي فاروق دحروج في زحلة إلى مركز عملي للحزب، ونظمت في تلك الفترة المهرجانات بمناسبة عيد العمال وعيد المرأة العالمي«. بدوره، يكشف الدكتور فارس ساسين عن نشاط ''تبشيري'' محدود لمنظمة العمل الشيوعي في المدارس والمهنيات ودار المعلمين، ولكن هذا النشاط بقي ضعيفاً بسبب غياب الجامعات في تلك الفترة في البقاع وما توفره من مناخ ثقافي وسياسي مختلف.
''عونة'' كتائبية لبناء بيت الحزب في جلسة ذكريات دامت نحو ساعتين في منزله، عاد الكتائبي العتيق (في السبعين من عمره) ولنسمه ''العم'' إختصاراً لأنه فضل عدم ذكر إسمه إلى عقود خلت واستذكر ماضي الكتائب في زحلة، في رحلة حنين وشوق إلى تاريخ شخصي إمتزج بالحزب وطقوسه وخطابه. كما شاركت الجلسة زوجته المتحمسة هي الأخرى للكتائب، وتكلمت بألم وحزن عن ذكريات زحلة المريرة مع الحصار والقنص عام 1981 ومع مضايقات العناصر الكتائبيّة المؤيدة للوزير الراحل إيلي حبيقة بعد إخراجهم من ''المنطقة الشرقية''. عمليات الحراسة الليلية التي نفذها الكتائبيون في أحياء زحلة وشوارعها أثناء ثورة العام 1958 هي الصورة الأولى التي يحفظها «العم« في ذاكرته، ويشير إلى انطلاقة الكتائب في أطراف زحلة كالمعلقة وحوش الأمراء ووادي العرئش، حيث فاق عدد الكتائبيين المئتين. إنتسب «العم« إلى قسم المعلقة في أوائل الستينات، وكانت أولى نشاطاته المشاركة في بناء «البيت الأول« الذي تملكته الكتائب في زحلة: ويقول: «قدم النّائب الكتائبي لويس أبو شرف وإبن عمه مخايل قطعة أرض في المعلقة إلى الحزب، وبدأنا ببناء البيت بأيدينا وجهدنا الفردي، فأنشأنا الأساسات وشارك الكتائبيون كافة في أعمال البناء كل في إختصاصه ومهنته: بناؤون، نجارون، حدادون، عمال... كما إشترينا المواد اللازمة من مالنا الخاص وإنتهى بناء البيت خلال شهرين«. ويتابع: «كانت للكتائب مطالب إجتماعية وعمرانية في الأحياء. ودعونا مرة محافظ البقاع في تلك الفترة نصري سلهب للإطلاع على وضع المعلقة، وألقيت خطاباً في كنيسة مار جرجس المارونية، شرحت فيه المشاكل التي نعاني منها. وقد نظمنا إحتفالاً كبيراً لاستقبال الشيخ بيار الجميل في فندق قادري أثناء زيارة له إلى زحلة. وفي بيت الكتائب في المعلقة والذي تفقده الشيخ بيار، ألقيت كلمة الترحيب. ما أدى إلى إحالتي إلى المحكمة والتفتيش المركزي، كوني في ملاك التعليم الرسمي ومارست عملاً حزبياً علنياً، لكن المحكمة قضت ببراءتي«. يمثل «العم« الذي لا يزال يحتفظ «بالزر الكتائبي«، نموذجاً عن شريحة إجتماعية واسعة رفدت حزب الكتائب بكوادر وناشطين وشكلت عموده الفقري، وترتكز على الطبقة الوسطى والفقيرة وما تضم من موظفين رسميين ومهنيين وعمال. وهو إذ ينفي صفة «المارونية« عن حزب الكتائب، ويؤكد أنهم في زحلة كانوا من جميع المذاهب لم يميزوا بين الكاثوليكي والماروني والأرثوذكسي، يعدد الأسباب التي دفعته إلى الإنخراط في صفوف الحزب: «وجدنا في الكتائب حزباً وطنياً لبنانياً يرفع شعار الله والوطن والعائلة، في مقابل الإقطاع العائلي وتنافس رجال السياسة على الحصص، إضافة إلى الشخصية الإستقطابية لبيار الجميل. ودافعت الكتائب عن حقوق العمال، وناضلت من أجل قانون العمل والضمان الإجتماعي والمساواة. وحزبنا هو حركة تحرير الفرد من القيود البالية وأخطاء المجتمع اللبناني، وحركة تحرر إجتماعي من الجهل وسيطرة الإقطاعيين«.
في التّسعينات «العونية والقواتية والكتائبيّة« قادتا المقاومة ضد السيطرة الأمنية في عروس البقاع! لم تشذ زحلة عن الوضع السياسي الذي إستجد في لبنان التسعينات من القرن الماضي، في أعقاب ما اختبرته إبتداءً من العام 1985 من تكريس للنفوذ السوري ووجود لطبقة سياسية قديمة - جديدة خاصة بعد وفاة وغياب جوزف سكاف والزّعماء التّقليدييّن. وإذا كان العمل الحزبي صعباً في زمن الجمهورية الأولى التي شهدت فيها الأحزاب فترة صعودها الذهبي، فقد «تحول إلى مغامرة وصار «شبه مستحيل« في «جمهورية الطائف«، وتحديداً بالنسبة لأحزاب المعارضة التي تصدرت العمل الحزبي في زحلة. إذ تصاعدت الضغوطات وحملات القمع، وإستفحلت مع اشتداد الأزمة الإقتصادية الخانقة ووقوع الشباب الزحلي بين مطرقة السلطة وسندان البحث عن لقمة العيش والمستقبل الضبابي والهجرة. يضاف إلى ذلك الإحباط من تجارب الأحزاب التي ترسخت في الأذهان «كميليشيا عسكرية« فقط، ومن الإنقسامات المسيحية، فبدلت الولاءات خصوصاً مع ضخ المال السياسي في الإنتخابات النيابية والبلدية التي تحولت إلى مصدر للإسترزاق، فباع الكثيرون أصواتهم مقابل «مئة دولار« وتنفيعات. وتشكل أقوال بعض الزحليين، كمفاخرة أحد المسؤولين في الحملات الإنتخابية لنائب زحلي سابق عن وجود صورة كبيرة للشيخ بشير الجميل في بيته، أو رفض أحدهم «التصويت للائحة المعارضة في الإنتخبات البلدية على الرغم من تأييده لطروحات المعارضة وحماسه لها لأن المعارضة ستخسر«. أبرز مثال على تبادل الولاءات والتقية السياسية بما ينطوي عليه ذلك من تسليم مسبق باستحالة التغيير وبالإزدواجية بين الإنتماء السياسي والتعبير عنه، وترسخ بعض الموروثات التقليدية والعائلية والمذهبية، إضافة إلى المفعول السحري للزعيم السحري السياسي، بيكاً كان أم نائباً أم وزيراً.
كسر جدار الصمت الحزبي! ففي زمن «الوصاية السّوريّة«، كانت عملية إزالة «نصب شهداء المقاومة اللبنانية« في مطلع التسعينات، في محاولة قسرية لإعادة كتابة تاريخ المدينة على إيقاع التوجهات الجديدة، وإزالة ما يمثله النصب من رمزية في «الذاكرة الجماعية لزحلة« ووجدانها المسيحي اللبناني المتطلع دوماً نحو جبل لبنان. وافتتح ذلك مرحلة طويلة من «الصمت السياسي« المخيم على عروس البقاع على الرغم من الحضور الشعبي الفاعل لطرفيّ المعارضين الرئيسيين ''التيار الوطني الحر'' و''القوات اللبنانية''، إضافة إلى حزب الكتاب اللبنانية «الحائر« حتى العام 2002 بين نهج قيادته ورغبات القاعدة الحزبية واتجهاتها. هذا «الصمت« الثقيل خرقته محطات معبرة عن وجه المدينة والمشاعر المكبوتة في الصدور، كما في الإحتفالات بفوز «فريق الحكمة لكرة السلة« في البطولات العربية والدولية... حيث كانت ترفع أعلام القوات اللبنانية وصور الدكتور سمير جعحع. وفي الإستقبال الحاشد لرئيس مجلس إدارة النهار (النّائب الشّهيد) جبران التويني بما مثّله من رمز شبابي معارض، لدى زيارته النائب إيلي سكاف بعد فوز لائحته في الإنتخابات البلدية العام .1987 وربما كان ذلك سبباً في منع تويني من إلقاء محاضرة في مدرسة راهبات القلبين الأقدسين - الرّاسيّة في تشرين الثاني .2000 كذلك شهدت زحلة إستقبالاً حاشداً للنائب بيار أمين الجميل صيف العام 2000 في زيارة دعم للمرشح الكتائبي عن المقعد الماروني المحامي إيلي الماروني والحركة الحزبية الحالية في زحلة ترتكز بشكل أساسي على قوى سياسية ثلاث: «التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والكتائب، مع ظهور جديد حالياً لحزب الوطنيين الأحرار، بعدما فشلت الأحزاب الأخرى في إيجاد موطئ قدم أو قاعدة شعبية لها في المدينة رغم محاولاتها الحثيثة لذلك وإحيائها لمناسبات حزبية في زحلة.
الكتائب بين الصيفي وبكفيا في حين بقي تيارا القوات اللّبنانيّة والوطني الحر حركة شعبية غير منظمة لفترة من الزمن، شكلت الكتائب اللبنانية أول الأحزاب العائدة إلى المسرح السياسي الزحلي مع إعادة افتتاح إقليم زحلة عام 1995 برئاسة جورج كفوري، وذلك بعد أعوام من إقفال بيوت الكتائب في زحلة التي صادرها إيلي حبيقة وجعلها مقرات لجماعته. وخلف كفوري العام 1996 المحامي إيلي الماروني الذي بدأ إعادة لم الشمل الكتائبي في ظل ظروف أمنية وسياسية صعبة. وفي العام نفسه، خاض الكتائبيون أولى معاركهم الإنتخابية، داعمين رفيقهم المحامي شوقي نجيم الذي ترشح عن المقعد الماروني في بعلبك. تواصلت حركة الكتائب في ظل القيادة الرسمية المتمثلة برئاسة المرحوم النّائب السّابق جورج سعادة ومن ثم منير الحاج. لكن إلتزام هذه القيادة التحالف مع سوريا والسلطة اللبنانية الموالية لها لم يمنع وضع حركة إقليم زحلة تحت المراقبة الأمنية المشددة، فكان يحظر مثلاً لصق صور الرئيس الراحل بشير الجميل لدى إحياء مناسبات حزبية، فيما كان يسمح بصور المؤسّس الشيخ بيار الجميل، لما يمثله بشير «من رمز مقاوم للسيطرة السورية« ومن حضور في قلوب الزحليين وذاكرتهم. في العام 2000، خاض رئيس الإقليم المحامي إيلي الماروني الإنتخابات النيابية منفرداً، واستطاع نيل أكثر من عشرة آلاف وخمسماية صوتاً بحسب الأرقام الرسمية، وأعقبت هذه الإنتخابات حملة توقيفات في صفوف شباب الكتائب على خلفية دعمهم الإنتخابي. وفي جملة التجاذب بين القيادة الحزبية والقاعدة الشعبية المؤيدة للرئيس أمين الجميل، حسم إقليم زحلة خياره بالإنضمام إلى «الحركة الإصلاحية الكتائبية« التي كان يرأسها الجميل في تشرين الثاني 2001 بعد تولي المحامي كريم بقرادوني رئاسة الحزب. عاد ليتوحّد معه الحزب لاحقاً ويترأّسه الرّئيس أمين جميّل.
الإنتخابات البلدية الأخيرة: محطة تحوّل! في أيار 2004، كانت «المعارضة الزحلية« على موعد مع محطة سياسية ستكون لها آثارها الحاسمة على مستقبل عملها في زحلة. فقد إستطاعت «أحزابها« أن تثبت وجودها رغم كل المضايقات وظروف الإنتخابات القاسية، وتحصل على رقم بالغ الدلالة في معركة غير متكافئة بين «لائحتيّ الجبابرة«. ففي حين كانت «المعارضة« تختلف فيما بينها في جبل لبنان وبيروت، شكلت أحزابها في زحلة لائحة موحدة غير مكتملة من ثمانية أعضاء فقط ينتمون إلى التيار الوطني الحر والقاعدة الكتائبية والقوات اللبنانية فضلاً عن مرشح مستقل. كانت هذه الإنتخابات الظهور العلني الأول للمعارضة التي نظمت مهرجاناً في حارة الراسية، إرتفعت فيه صور بشير الجميل وسمير جعجع وميشال عون (صهر المدينة) الذي خاطب أهالي زحلة للمرة الأولى طالباً منهم الإقتراع للتغيير والمبادئ والمستقبل. ولم يصدّق ناشطو المعارضة ما رأته عيونهم، وكانوا يهنئون بعضهم بهذا الإنجاز النوعي الذي لم يصدق أحد أنه سيمر من دون ضربة أمنية قاسية تعوّدوا على مثيلاتها. وعبر التبرعات و''فلس الأرملة'' والنشاط المحموم في أحياء زحلة، وانطلاقاً من «مكتب يتيم« في المدينة، لم يكن يتسع للزائرين ولم يكن يوجد فيه سوى جهاز كمبيوتر وحيد بتكاليف لم تتجاوز آلاف الدولارات، إستطاع مرشحو المعارضة أن يحوزوا أرقاماً قاربت الخمسة آلاف صوت في معركة سال فيها ملايين الدولارات التي أنفقتها اللائحتان المتنافستان. ودفعت هذه النتيجة المفاجئة بعضاً من مناصري لائحتيّ النائب الياس سكاف ومنافسيه: النائب السابق يوسف المعلوف والوزير السابق نقولا الخوري إلى تهنئة المعارضة على الأرقام الملفتة التي حققتها. لكن هذا التحوّل في «عروس البقاع« لم يكن ليمر مرور الكرام لدى «المخابرات« الساعية لضبط الإيقاع السياسي. فبعد فشل محاولات الترغيب تجاه «التيار الوطني الحر« الذي برز بقوة في الإنتخابات وواصل اجتماعات دورية أسبوعية ونظم غداء لمناصريه في «قهوة فريدة«، إندفعت الأجهزة السّوريّة لتوقف العديد من العونيين الملتزمين وتوجه إليهم ''نصائح بعدم مواصلة الإجتماعات'' ونسيان فكرة الإنتخابات النيابيّة في الـ2005 بإسم «التيار«. وبثت الأجهزة أخبار عما سمته إجتماعات مشبوهة لترويج أسلحة.
تفرق عشاق الأحزاب! كان على مناصري الأحزاب أن ينتظروا إلى ما بعد إستشهاد الرئيس رفيق الحريري وتداعياته وصولاً إلى «الرابع عشر من آذار« ليطلقوا في أرجاء زحلة سلسلة من نشاطات ومهرجانات في ترجمة ميدانية لحقيقة حجمهم ووجودهم الذي بقي خلف الأضواء طيلة خمسة عشر عاماً. فنظم «التيار الوطني الحر« حواراً مباشراً على الهاتف مع العماد ميشال عون، هو الأول من نوعه. وزار الرئيس أمين الجميل زحلة. فيما أعادت القوات اللبنانية أسماء شهداء زحلة إلى ساحتهم. لكن الإنتخابات النيابية بظروفها وتحالفاتها، فرقت شمل المعارضة السابقة، فتواجه مرشح «القاعدة الكتائبية« إيلي ماروني على لائحة تحالف «تيار المستقبل« والنوّاب نقولا فتوش ويوسف المعلوف ومحسن دلّول مدعوماً من القوات اللبنانية مع مرشح «التيار الوطني« الحر على «لائحة تحالف التيار - سكاف« المهندس سليم عون الذي فاز بأكثرية كبيرة، مكرساً قوة «البرتقالي العوني« الذي اجتاح أحياء زحلة وإرتفع فوق السطوح والشرفات. وبدخولها اليوم مرحلة جديدة في عملها، ترتفع تحديات جديدة أمام الأحزاب الناشطة في زحلة، التي برزت كشريك أساسي لمحاور النفوذ التقليدية في المدينة. فهي باتت اليوم في مرحلة المراقبة والمحاسبة بعدما بات أحد مسؤوليها (سليم عون) نائباً في البرلمان، وركنها الثّاني إيلي ماروني أصبح وزيراً للسّياحة عن الكتائب في حكومة الرّئيس السّنيورة الحاليّة وتحققت قضاياها الكبرى المحفزة كالإنسحاب السوري وعودة ميشال عون وخروج سمير جعجع.
المدينة المسيحية العاصية في البقاع لا يمكن تناول أحوال الأحزاب في زحلة من دون ذكر مرحلة أساسية هي مرحلة الحرب التي شارك فيها الزحليون مع أحزابهم في محطتين أساسيتين: الأولى في خلال حرب ''السنتين'' حين هوجمت المدينة من قبل المنظمات الفلسطينية والأحزاب اليسارية، فنشأ في تلك الفترة ''التجمع الزحلي العام'' الذي شكل مقاومة شعبية غير مرتبطة بالأحزاب وقاده عدد من الشخصيّات الزحليّة بعد فترة من تأسيسه، إلى جانب تسلّح حزب الكتائب. أما المحطة الثانية والأبرز، فكانت حرب العام 1981 مع القوات السورية التي حاصرت المدينة ثلاثة أشهر، وواجه فيها الزحليون القصف العشوائي والقنص والتجويع ونقص الإمدادات الطبية. وكانت «حرب زحلة« معركة استنزاف قاسية خاضتها «القوات اللبنانية« بقيادة بشير الجميل مع الزحليين على إمتداد المدينة من قاع الريم إلى وادي العرائش والحمار والمدينة الصناعية والمعلقة وحوش الأمراء، وإنتهت بانسحاب مقاتلي القوات اللبنانية الذين أتوا من بيروت وجبل لبنان وبإنتصار سياسي لبشير الجميل الّذي فتحت له زحلة طريق الوصول إلى رئاسة الجمهوريّة قبل استشهاده، في حين بقي للكتائب والقوات وجود عسكري وسياسي واجتماعي في زحلة وواصلتا النشاطات المختلفة. لكن القوات السورية لم تسمح بأن تبقى زحلة خارج سيطرتها، فأطبقت على المدينة تدريجياً بدءاً من العام 1984، وفرضت واقعاً سياسياً وأمنياً جديداً على «المدينة المسيحية العاصية« في البقاع.
«تجربة حزبية«.. مستقلة و«يتيمة«! لم تخلُ الساحة السياحية الزحلية من محاولات حزبية جديدة بعيدة عن الحزبية التقليدية، إذ قاد أستاذ الفلسفة في الكليّة الشرقيّة جورج عون ووالد النّئب الحالي سليم عون «محاولة يتيمة« لتأسيس حركة سياسية جديدة ذات بعد لبناني ديمقراطي. لكن، هذه المحاولة أتت بعد أن فاتح عون رئيس «الكتلة الشعبية« جوزف سكاف في بداية السبعينات بضرورة تحويل «الكتلة« إلى «حزب منظم«. ويقول عون «أن الحاجة إلى التغيير دفعته لطرح الفكرة على سكاف، وقدم له دراسة للحزب المنوي إنشاؤه وتصميماً لهيكليته، فوافق على المشروع العتيد وشجعه وباركه«. لكن تأييد سكاف لفكرة الحزب ما لبث أن تراجع، وبدأ بالمماطلة في بحث الفكرة بعد عودته من سفر إلى السعودية، ما أدى بعون إلى إنشاء تنظيم سياسي مستقل هو ''حركة التوعية الديمقراطية''. ووضعت مبادئ الحركة في «كرّاس« حمل إسم: ''أخي، إن أردت أن تسير معنا، هذه هي مبادئنا''، وكان عصارة أفكار جورج عون السياسية. وقد خاض عون الإنتخابات النيابية عام 1972 منفرداً في مواجهة لائحة جوزف سكاف الإئتلافية، كما ترشح مثقفون آخرون بشكل «منفرد« كنقولا ألوف ونقولا معكرون والصّحافي حميد غريافي، ولكنهم لم ينجحوا في خرق الجدار التقليدي الذي إزداد متانة بعد الإئتلاف بين جوزف سكاف ومنافسيه. وقد أوقفت الحرب اللبنانية هذه التجربة «الحزبية الجنينية« في مهدها. فالأحزاب والشخصيات الزحلية سوف تتحول نحو العمل العسكري دفاعاً عن المدينة التي لم تنجُ من «جولات« الحروب اللّبنانيّة حتّى عام 1985الّذي كان بداية «الحلّ الزّحلي« مع السّوريين ودخولهم المدينة سلميّاً ووفق نشاط وعدل الكتائب والقوّات اللّبنانيّة . وخلاصة القول أن التجربة الحزبية في زحلة قبل الحرب بقيت ضعيفة ولكنّها «جريئة وفعّالة« في مقابل العائلية السياسية، واستمر جوزف سكاف سيد المعارك الإنتخابية من العام 1953 إلى العام 1972، بإستثناء فشله في إنتخابات العام 1968 بفارق 167 صوتاً عن منافسه جوزف أبو خاطر.ّ |